فصل: تفسير الآيات (10- 11):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (10- 11):

{إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا (11)}
قوله عز وجل: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ} أي: من فوق الوادي من قِبَلٍ المشرق، وهم أسد، وغطفان، وعليهم مالك بن عوف النصري وعيينة بن حصن الفزاري في ألف من غطفان، ومعهم طليحة بن خويلد الأسدي في بني أسد وحيي بن أخطب في يهود بني قريظة، {وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} يعني: من بطن الوادي، من قِبَل المغرب، وهم قريش وكنانة، عليهم أبو سفيان بن حرب في قريش ومَنْ تبعه، وأبو الأعور عمرو بن سفيان السلمي من قبل الخندق.
وكان الذي جر غزوة الخندق- فيما قيل- إجلاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير من ديارهم.
{وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ} مالت وشخصت من الرعب، وقيل: مالت عن كل شيء فلم تنظر إلى عدوها، {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} فزالت عن أماكنها حتى بلغت الحلوق من الفزع، والحَنْجَرة: جوف الحلقوم، وهذا على التمثيل، عبّر به عن شدة الخوف، قال الفراء: معناه أنهم جبنوا وسبيل الجبان إذا اشتد خوفه أن تنتفخ رئته فإذا انتفخت الرئة رفعت القلب إلى الحنجرة، ولهذا يقال للجبان: انتفخ سحره.
{وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} أي: اختلفت الظنون؛ فظن المنافقون استئصال محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي عنهم، وظن المؤمنون النصر والظفر لهم.
قرأ أهل المدينة والشام وأبو بكر: {الظنونا} و{الرسولا} و{السبيلا} بإثبات الألف وصلا ووقفًا، لأنها مثبتة في المصاحف، وقرأ أهل البصرة وحمزة بغير الألف في الحالين على الأصل، وقرأ الآخرون بالألف في الوقف دون الوصل لموافقة رؤس الآي. {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ} أي: عند ذلك اختبر المؤمنون، بالحصر والقتال، ليتبين المخلص من المنافق، {وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا} حُرّكوا حركة شديدة.

.تفسير الآيات (12- 14):

{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلا يَسِيرًا (14)}
{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ} معتِّب بن قشير، وقيل: عبد الله بن أُبيّ وأصحابه، {وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} شك وضعف اعتقاد: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا} وهو قول أهل النفاق: يَعِدُنا محمد فتح قصور الشام وفارس وأحدنا لا يستطيع أن يجاوزَ رحله، هذا والله الغرور. {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ} أي: من المنافقين، وهم أوس بن قيظي وأصحابه، {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ} يعني المدينة، قال أبو عبيدة: {يثرب}: اسم أرضٍ، ومدينةُ الرسول صلى الله عليه وسلم في ناحيةٍ منها.
وفي بعض الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تسمى المدينة يثرب، وقال: «هي طابة»، كأنه كره هذه اللفظة.
{لا مُقَامَ لَكُمْ} قرأ العامة بفتح الميم، أي: لا مكانه لكم تنزلون وتقيمون فيه، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وحفص: بضم الميم، أي: لا إقامة لكم، {فَارْجِعُوا}؛ إلى منازلكم عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: عن القتال إلى مساكنكم.
{وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ} وهم بنو حارثة وبنو سلمة، {يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} أي: خالية ضائعة، وهو مما يلي العدو نخشى عليها السرّاق. وقرأ أبو رجاء العطاردي {عَورَة} بكسر الواو، أي: قصيرة الجدران يسهل دخول السراق عليها، فكذبهم الله فقال: {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا} أي: ما يريدون إلا الفرار. {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ} أي: لو دَخَلَتْ عليهم المدينة، يعني هؤلاء الجيوش الذين يريدون قتالهم، وهم الأحزاب، {مِنْ أَقْطَارِهَا} جوانبها ونواحيها جمع قطر، {ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ} أي: الشرك.
{لآتَوْهَا} لأعطوها، وقرأ أهل الحجاز لأتوها مقصورًا، أي: لجاؤوها وفعلوها ورجعوا عن الإسلام، {وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا} أي: ما احتبسوا عن الفتنة، {إِلا يَسِيرًا} ولأسرعوا الإجابة إلى الشرك طيبة به أنفسهم، هذا قول أكثر المفسرين.
وقال الحسن والفراء: وما أقاموا بالمدينة بعد إعطاء الكفر إلا قليلا حتى يهلكوا.

.تفسير الآيات (15- 16):

{وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلا قَلِيلا (16)}
{وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ} أي: من قبل غزوة الخندق، {لا يُوَلُّونَ الأدْبَارَ} من عدوهم أي: لا ينهزمون، قال يزيد بن رومان: هم بنو حارثة، هموا يوم أحد أن يفشلوا مع بني سلمة، فلما نزل فيهم ما نزل عاهدوا الله أن لا يعودوا لمثلها.
وقال قتادة: هم ناس كانوا قد غابوا عن وقعة بدر ورأوا ما أعطى الله أهل بدر من الكرامة والفضيلة قالوا: لئن أشهدنا الله قتالا لنقاتلن، فساق الله إليهم ذلك.
وقال مقاتل والكلبي: هم سبعون رجلا بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة، وقالوا: أشترط لربك ولنفسك ما شئت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأولادكم، قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا يا رسول الله؟ قال: لكم النصر في الدنيا والجنة في الآخرة، قالوا: قد فعلنا ذلك. فذلك عهدهم.
وهذا القول ليس بمرضي، لأن الذين بايعوا ليلة العقبة كانوا سبعين نفرا، لم يكن فيهم شاك ولا من يقول مثل هذا القول، وإنما الآية في قوم عاهدوا الله أن يقاتلوا ولا يفروا، فنقضوا العهد.
{وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولا} عنه. {قُلْ} لهم، {لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ} الذي كتب عليكم لأن من حضر أجله مات أو قتل، {وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلا قَلِيلا} أي: لا تمتعون بعد الفرار إلا مدة آجالكم وهي قليل.

.تفسير الآيات (17- 19):

{قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلا قَلِيلا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19)}
{قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ} أي: يمنعكم من عذابه، {إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا} هزيمة، {أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً} نصرة، {وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا} أي: قريبا ينفعهم، {وَلا نَصِيرًا} أي: ناصرا يمنعهم. {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ} أي: المثبطين للناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَالْقَائِلِينَ لإخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} أي: ارجعوا إلينا، ودعوا محمدا، فلا تشهدوا معه الحرب، فإنا نخاف عليكم الهلاك.
قال قتادة: هؤلاء ناس من المنافقين، كانوا يثبطون أنصار النبي صلى الله عليه وسلم، ويقولون لإخوانهم: ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس، ولو كانوا لحما لالتهمهم، أي: ابتلعهم أبو سفيان وأصحابه، دعوا الرجل فإنه هالك.
وقال مقاتل: نزلت في المنافقين، وذلك أن اليهود أرسلت إلى المنافقين، وقالوا: ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبي سفيان ومن معه، فإنهم إن قدروا عليكم في هذه المرة لم يستبقوا منكم أحدا، وإنا نشفق عليكم، أنتم إخواننا وجيراننا هلموا إلينا، فأقبل عبد الله بن أبي وأصحابه على المؤمنين يعوقونهم ويخوفونهم بأبي سفيان ومن معه، وقالوا: لئن قدروا عليكم لم يستبقوا منكم أحدا ما ترجون من محمد؟ ما عنده خير، ما هو إلا أن يقتلنا هاهنا، انطلقوا بنا إلى إخواننا، يعني اليهود، فلم يزدد المؤمنون بقول المنافقين إلا إيمانا واحتسابا.
قوله عز وجل: {وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ} الحرب {إِلا قَلِيلا} رياء وسمعة من غير احتساب، ولو كان ذلك القليل لله لكان كثيرا. {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} بخلاء بالنفقة في سبيل الله والنصرة، وقال قتادة: بخلاء عند الغنيمة، وصفهم الله بالبخل والجبن، فقال: {فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ} في الرؤوس من الخوف والجبن {كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} أي: كدوران الذي يغشى عليه من الموت، وذلك أن من قرب من الموت غشيه أسبابه يذهب عقله ويشخص بصره، فلا يطرف، {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ} آذوكم ورموكم في حال الأمن، {بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} ذربة، جمع حديد. يقال للخطيب الفصيح الذرب اللسان: مسلق ومصلق وسلاق وصلاق. قال ابن عباس: سلقوكم أي: عضدوكم وتناولوكم بالنقص والغيبة. وقال قتادة: بسطوا ألسنتهم فيكم وقت قسمة الغنيمة، يقولون أعطونا فإنا قد شهدنا معكم القتال، فلستم أحق بالغنيمة منا فهم عند الغنيمة أشح قوم وعند البأس أجبن قوم، {أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ} أي: عند الغنيمة يشاحون المؤمنين، {أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ} قال مقاتل: أبطل الله جهادهم، {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا}.

.تفسير الآيات (20- 21):

{يَحْسَبُونَ الأحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلا قَلِيلا (20) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)}
{يَحْسَبُونَ} يعني هؤلاء المنافقين، {الأحْزَابَ} يعني: قريشا وغطفان واليهود، {لَمْ يَذْهَبُوا} لم ينصرفوا عن قتالهم جبنا وفرقا وقد انصرفوا، {وَإِنْ يَأْتِ الأحْزَابُ} أي: يرجعوا إليه للقتال بعد الذهاب، {يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأعْرَابِ} أي يتمنوا لو كانوا في بادية الأعراب من الخوف والجبن، يقال: بدا يبدو بداوة، إذا خرج إلى البادية، {يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ} أخباركم وما آل إليه أمركم، وقرأ يعقوب: {يساءلون} مشددة ممدودة، أي: يتساءلون، {وَلَوْ كَانُوا} يعني: هؤلاء المنافقين، {فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلا قَلِيلا} تعذيرا، أي: يقاتلون قليلا يقيمون به عذرهم، فيقولون قد قاتلنا. قال الكلبي: إلا قليلا أي: رميا بالحجارة. وقال مقاتل: إلا رياء وسمعة من غير احتساب. قوله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} قرأ عاصم: {أسوة} حيث كان، بضم الهمزة، والباقون بكسرها، وهم لغتان، أي: قدوة صالحة، وهي فعلة من الائتساء كالقدوة من الاقتداء، اسم وضع موضع المصدر، أي: به اقتداء حسن إن تنصروا دين الله وتؤازروا الرسول ولا تتخلفوا عنه، وتصبروا على ما يصيبكم كما فعل هو إذ كسرت رباعيته وجرح وجهه، وقتل عمه وأوذي بضروب من الأذى، فواساكم مع ذلك بنفسه، فافعلوا أنتم كذلك أيضا واستنوا بسنته، {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ} بدل من قوله: {لكم} وهو تخصيص بعد تعميم للمؤمنين، يعني: أن الأسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم لمن كان يرجو الله، قال ابن عباس: يرجو ثواب الله. وقال مقال: يخشى الله {وَالْيَوْمِ الآخِرِ} أي: يخشى يوم البعث الذي فيه جزاء الأعمال، {وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} في جميع المواطن على السراء والضراء.

.تفسير الآيات (22- 23):

{وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا (23)}
ثم وصف حال المؤمنين عند لقاء الأحزاب فقال: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأحْزَابَ قَالُوا} تسليما لأمر الله وتصديقا لوعده: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} وعد الله إياهم ما ذكر في سورة البقرة: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم} إلى قوله: {ألا إن نصر الله قريب} [البقرة – 214] فالآية تتضمن أن المؤمنين يلحقهم مثل ذلك البلاء، فلما رأوا الأحزاب وما أصابهم من الشدة قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله، {وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} أي: تصديقا لله وتسليما لأمر الله. قوله عز وجل: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} أي: قاموا بما عاهدوا الله عليه ووفوا به، {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} أي: فرغ من نذره، ووفى بعهده، فصبر على الجهاد حتى استشهد، والنحب: النذر، والنحب: الموت أيضا، قال مقاتل: {قضى نحبه}، يعني: أجله فقتل على الوفاء، يعني حمزة وأصحابه. وقيل: {قضى نحبه} أي: بذل جهده في الوفاء بالعهد من قول العرب: نحب فلان في سيره يومه وليلته أجمع، إذا مد فلم ينزل، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} الشهادة.
وقال محمد بن إسحاق: {فمنهم من قضى نحبه} من استشهد يوم بدر وأحد {ومنهم من ينتظر} يعني: من بقي بعد هؤلاء من المؤمنين ينتظرون أحد الأمرين؛ إما الشهادة أو النصر {وَمَا بَدَّلُوا} عهدهم {تَبْدِيلا}.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا محمد بن سعيد الخزاعي، أخبرنا عبد الأعلى، عن حميد قال: سألت أنسا \ح \ وحدثني عمرو بن زرارة، أخبرنا زياد، حدثني حميد الطويل، عن أنس قال: غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء- يعني أصحابه- وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء- يعني المشركين- ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ، فقال: يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر إني أجد ريحها من دون أحد، قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع، قال أنس فوجدنا به بضعا وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل وقد مثل به المشركون، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه، قال أنس: كنا نظن أو نرى أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} إلى آخر الآية.
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري، أخبرنا حاجب بن أحمد الطوسي، أخبرنا محمد بن حماد، أخبرنا معاوية، عن الأعمش، عن سفيان عن شقيق، عن خباب بن الأرت قال: هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله نبتغي وجه الله فوجب أجرنا على الله، فمنا من مضى لم يأكل من أجره شيئا، منهم مصعب بن عمير، قتل يوم أحد، فلم يوجد له شيء يكفن فيه إلا نمرة، فكنا إذا وضعناها على رأسه خرجت رجلاه، وإذا وضعناه على رجليه خرج رأسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ضعوها مما يلي رأسه واجعلوا على رجليه من الإذخر، قال: ومن أينعت له ثمرته فهو يهد بها».
أخبرنا أبو المظفر محمد بن أحمد التيمي، أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن عثمان المعروف بابن أبي نصر، أخبرنا خيثمة بن سليمان بن حيدرة الأطرابلسي، أخبرنا محمد بن سليمان الجوهري بأنطاكية، أخبرنا مسلم بن إبراهيم، أخبرنا الصلت بن دينار، عن أبي نصرة، عن جابر بن عبد الله قال: نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى طلحة بن عبد الله فقال: «من أحب أن ينظر إلى رجل يمشي على وجه الأرض وقد قضى نحبه فلينظر إلى هذا».
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا عبد الله بن أبي شيبة، أخبرنا وكيع بن إسماعيل، عن قيس قال: رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد.